هذه القصة من قصص القرآن العظيمة التي وردت في كتاب الله عز وجل وتحديدا في سورة الكهف وهي قصة ذي القرنين والروم ورحلته من المشرق للمغرب ولكن دعونا نعرف اولا من هو ذي القرنين؟ وما سبب تسميته بهذا الاسم؟ ورد عن ابن كثير في كتاب البداية والنهاية أن ذو القرنين كان ملكًا من الملوك العادلين والدليل قول ابن عباس رضي الله عنهما: “كان ذو القرنين ملكًا صالحًا، رضي الله عمله، وأثنى عليه في كتابه” كما سئل علي بن أبي طالب عن ذي القرنين؟ فقال لم يكن نبيًا ولا رسولاً ولا ملكًا، ولكن كان عبدًا صالحًا. . وبعض الناس قالوا أنه هو الإسكندر المقدوني الذي بنى مدينة الإسكندرية، ولكن هذا قول باطل. كما ذكر ابن كثير رحمه الله في كتابه البداية والنهاية
عرفنا من هو ذو القرنين ،لماذا سمي بهذ الاسم؟ ورد عن ابن كثير أيضا في كتاب البداية والنهاية أن سبب التسمية بهذا الاسم لأنه بلغ قرني الشمس شرقًا وغربًا، وملك ما بينهما من الأرض فقد كان ملك ذي القرنين عظيما بلغ في اتساعه حدود الارض يمينا وشمالًا، أو شرقًا وغربًا فسمي بذي القرنين، وذكر أن ملوك الأرض أربعة: ملكان مسلمان وهم سليمان عليه السلام ، وذو القرنين، وملكان كافران وهم الاسكندر المقدوني، وبختنصر.
قطوف من القصة ورحلة ذي القرنين :
بدأت الايات بكلمة وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ[الكهف: 83]، أي أن أهل الكتاب قد سألوا النبي محمد صلى الله عليه وسلم عليه الصلاة والسلام على قصة ذي القرنين، ورد النبي محمد بكلمة من والتي تفيد التبعيض أي أنه لن يسرد كل الاحداث ويحكي لهم كل تفاصيل القصة.وإنما فقط العبر المستخلصة والعظات من تلك القصة ،وبدات القصة بقول الله عز وجل { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا * فَأَتْبَعَ سَبَبًا } أي أن الله عز وجل قد أعطاه ومنحه كل سبل التمكين والقوه ثم تبدأ الايات بذكر مسار الرحلة التي قام بها ذي القرنين ابتداء بمغرب الشمس، مرورا بمطلع الشمس وصولا الى رحلة بناء السد الشهيره وهنا نستعرض الرحلات الثلاث وأهم العبر المستخلصة حسب المفسرون:
• الرحلة الاولى : رحلة ذي القرنين الى مغرب الشمس { حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا } أي طلبوا منه النصرة من هؤلاء القوم إما أن يقوم بقتلهم أو تعذيبهم أو أسرهم وإما أن يقوم بالاحسان لهم ، فقال لهم ذي القرنين أنه سوف يقسمهم لفريقين الذي ظلم نفسه بالكفر سوف يعذب وينال عقوبة الدنيا، وعقوبة الآخرة،اما من كان في فريق المؤمنين فسوف يتلطف معه بالقول والمعاملة ويكون من نصيبه الجنة يوم الحساب.
• الرحلة الثانية : رحلة ذي القرنين وبلوغه مطلع الشمس { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا *} وعندما وصل الي مطلع الشمس وجد مطلعها على قوم من صفاتهم الهمجية والتوحش وعدم التمدن و لايستترون من أشعة الشمس الحارقة ، بسبب إما عدم جاهزيتهم من وجود مساكن تحميهم وإما لديمومة الشمس عندهم، ولا يصادف عندهم أي غروب يذكر لأشعة الشمس ، ومثل ذلك من اماكن العالم شرقي أفريقيا الجنوبي، فوصلوه إلى هذا الموضع الذي لا يعلم عنه أهل الارض أي شيء هو من فضل الله عليه قال الله تعالى { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا } .
• الرحلة الثالثة : نأتي الى الرحلة الهامة وهي رحلة بناء السد وقوم يأجوج ومأجوج: { حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلا * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا * قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا * فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا }, { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ } قال المفسرون: ذهب ذي القرنين من المشرق، متوجها للشمال، فوصل إلى ما بين السدين، فوجد من دون السدين قوما، أعاجم لا يمكن فهم قولهم وقلوبهم، وقد منح الله ذا القرنين من أسباب التمكين ما مكنه من فهم أولئك ، فقدموا له شكوى أنهم يتضررون من يأجوج ومأجوج ومن فسادهم بالقتل وسلب الأموال وغير ذلك. وطلبوا منه بسبب عدم استطاعتهم بنيان السد وما عرفوه من اقتدار ذي القرنين علي القيام بذلك نظيرأجرة يمنحونها اياه ولكنه لم يأخذ منهم أي أجرة، بل طلب منهم معاونته في بناء السد فلما بنى السد من حديد ونار نسب الفضل لله واعترف وأقر بنعمة الله عليه : { هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } وذكر لهم أن يوم القيامة سوف ينهار هذا السد.
العبر المستخلصة من قصة ذي القرنين
• تعلم البشرية تلك القصة العظيمة ضرورة الأخذ بالأسباب. فقد قال الله تعالى (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ) ولقد منح الله ذي القرنين كل سبل وأسباب التمكين، حتى ملك مشارق الأرض ومغاربها، وخضعت له البلاد، و العباد، (وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ،)اي من أسباب الملك والقوة، وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا.كل هذه السبل عاونت ذي القرنين في المضي في دعوته في كل أرجاء الارض يمينًا وشمالاً داعيا لله عز وجل وهذا هو واجب الداعية أن يستثمر كل امكانياته وطاقته وقدراته لينشر دين الله.
• درس أخر وهام من هذه القصة العظيمة ضرورة الدعوة والبدء باللين، وذلك قبل اللجوء الى خيار القتال.
• تعفف الملك وهو ذي القرنين وزهده في أموال رعيته، قال لهم: { قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } [الكهف: 95]، أي لا حاجة لي بأموالكم.
• التواضع و ضرورة تذكير الآخرين بأن نجاح وثمرة العمل هو من رحمة وفضل الله ولهذا قال ذو القرنين بتواضع عند اكتمال مشروع بناء السد { قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي } [الكهف: 98]، فنسب الامر الى توفيق االله ورحمته
• التذكير بيوم القيامة فقد ذكرهم ذا القرنين عندما بنى السد، وقال: { فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا } [الكهف: 98]، فذكرهم هنا باليوم الآخر.
• ترسيخ مبدا الصدقة الجارية، لأن بناء السد ومنع الفساد الذي فعله ذو القرنين مستمر إلى يومنا الحالي وحتى يرث الارض ومن عليها لذا في بنائه للسد ترسيخ لمبدأ الصدقة الجارية وما تعود به من نفع للاخرين وهذا هو التخليد الحقيقي بطيب الاثر وبجميل الثناء، و بعظيم الافعال كما قال إبراهيم عليه السلام : { وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ } (الشعراء: )84.
• ضرورةاستثمارالطاقات البشرية و التخطيط المحكم قبل تنفيذ أي مهمة و يظهر ذلك جليا في قوله {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ}[الكهف:95]، أي طلب منهم المعاونة والمساعدة وأن يقدموا خدماتهم ويعاونوه في بناء السد ولا يقفوا متفرجين بل لقد أسدى لهم معروفا وعلمهم الصنعة لهم مع انهم كانوا لا يعرفونها في البداية.
• ضروروة الاخذ بأسباب القوة؟ وفي هذه القصة من النصائح والمواعظ للمسلمين كيف ينتصروا على اعداء الله من اليهود والا يقفوا مكتوفي الايدي أمام ظلم وطغيان هذا الغول اليهودي وتهديداته المستمرة ؟ ففساد يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ كما في الاية الكريمة { إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ } [الكهف: 94] يذكرنا بفساد اليهود وظلمهم في الأرض، وضرورة التصدي لذلك الغي والفساد ليس بالشجب وبالاستنكار، و لا بالشكوى وطلب التدخل من الأجانب ولا بالمؤتمرات الدولية والخطابات العصماء ، و انما بالأخذ بأسباب القوة، ولنا في تلك القصة العظيمة قصة ذي القرنين ومناشدته للتعاون كما في الاية الكريمة { فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ } [الكهف:95]، فهنا هو الحل بتعاون المؤمنون فيما بينهم، فالاماني الخادعة والاحلام الزائفة لا تحقق للأمة أي نجاح ولا نصرة إلا وختاما لنا في هذه العبرالمستخلصة من القصة دليل وطريق لامور كثيرة في حياتنا